استطاعت المملكة المغربية أن تعزز علاقاتها مع دول إفريقيا جنوب الصحراء بعد التخلص من الاستعمار الغربي وحصولها على استقلالها عام 1956، مستحضرة المسار الطويل الذي يجمعها مع المجتمعات الإفريقية، عبر التاريخ عموما، وخلال التاريخ المعاصر والراهن على الخصوص. وهو مسار مفعم بالأحداث والوقائع، سواء في ظل منظمة الوحدة الإفريقية، أو في ظل الاتحاد الإفريقي؛ بحيث إن المملكة كانت لها القدرة على ترسيخ هذه الصلات، وجعلت من الروابط مع بلدان القارة السمراء، عموما، ودول إفريقيا الغربية خصوصا، مسألة استراتيجية لسياستها الخارجية؛ إذ إن هذه العلاقات المغربية الإفريقية منذ الاستقلال إلى مرت عبر جملة من المراحل زاوجت بين متانة هذه العلاقات تارة، وبين فتورها تارة أخرى، سيما أن هذه الروابط تأثرت غير ما مرة بحجم الملفات السياسية الثقيلة التي تقاطعت في شأنها مصالح المملكة مع مصالح بعض الدول الإفريقية، ناهيك عن الحمولات والشحنات الإيديولوجية الهائلة التي ميزت النظام العالمي خلال النصف الثاني من القرن الماضي في ظل القطبية الثنائية التي تأثرت بها أوضاع الأنظمة السياسية الناشئة في القارة السمراء، والتي أرْخت بظلالها القاتمة على نوعية وطبيعة العلاقات بين دولها.
وما هو مؤكد، أن المملكة المغربية تعتبر من الأمم النادرة التي تجمعها مع دول إفريقيا جنوب الصحراء روابط تاريخية قوية تعود إلى أكثر من اثني عشر قرنا، حققت خلالها المملكة تراكما هائلا على مستوى التجارب التاريخية مع هذه الدول، كان من نتائجها خصوبة المشتركات، وغنى الذاكرة، وثراء المجالات التي يتقاسم المغرب بفضلها مع دول إفريقيا جنوب الصحراء تجارب الماضي بكل إيجابياته وسلبياته؛ بحيث إن هذا المستند التاريخي يمثل حجرة الزاوية في العلاقات المغربية الإفريقية، حضاريا وثقافيا وفكريا وروحيا وعقائديا ولغويا واقتصاديا واجتماعيا وغير ذلك.
وهذا الإرث التاريخي الذي يجمع بين المغرب ودول إفريقيا جنوب الصحراء، حينته المملكة بعد الاستقلال، واستثمرت فيه على كافة المجالات، وأضافت إليه جملة من التصورات والمبادرات التي كان الهدف منها تعزيز العلاقات المغربية الإفريقية؛ إذ إن السياسة الخارجية المغربية راهنت على تفعيل حزمة من الاستراتيجيات القطاعية التي من شأنها أن تحفظ للمغرب موقعه التاريخي في دول إفريقيا جنوب الصحراء.
وإذا كان عهدا السلطان محمد بن يوسف والملك الحسن الثاني قد تميزا بالانخراط الفعلي في عمليات التحرر داخل القارة السمراء، والعمل على التخلص من الوجود الاستعماري الأوربي في البلدان الإفريقية بشكل عام، فإن عهد الملك محمد السادس، يتميز بتعزيز مكانة المملكة المغربية في القارة الإفريقية، في إطار رؤية جديدة شعارُها التعاونُ والتضامن والشراكة على قاعدة رابح-رابح، ودعمُ علاقات جنوب- جنوب، وجعلُ المجتمعات الإفريقية تثق في نفسها، وتؤمن بقدراتها، وتراهن على أبنائها بعيدا عن التبيعة والاستغلال الأوربيَّيْنِ.
وهذه العلاقات التي تجمع بين المغرب ودول إفريقيا جنوب الصحراء، بكل أبعادها وخلفياتها بين الأمس واليوم، وما تخللها من مبادرات ومخططات، هي التي جعلناها موضوعا لهذا الكتاب بعنوان: « الأبعاد الاستراتيجية للعلاقات المغربية الإفريقية : الاقتصاد الأمن الهجرة»؛ بحيث إننا تركنا هذا الموضوع مفتوحا زمنيا من حيث بداياتُه، لقناعتنا أن جملةً من الظواهر التاريخية الفاعلة اليوم في العلاقات المغربية الإفريقية تعود إلى قرون خلت، وأنه من المجحف جدا العملُ على إقصاء هذه الظواهر المؤصلةِ لجملة من السلوكات والأحوال التي تميز هذه العلاقات التي تجمع اليوم بين المغرب ودول إفريقيا جنوب الصحراء.
ولقد دفعتنا إلى اختيار هذا الموضوع دوافعٌ ذاتيةٌ وأخرى موضوعية، تمثلت في اهتمامنا بقضايا التنمية والذاكرة والهجرة وغيرِها من المكونات التي تربط المغربَ مع دول إفريقيا جنوب الصحراء؛ ناهيك عن رغبتنا في مقاربة الأهمية الكبرى التي تكتسيها العلاقاتُ المغربية الإفريقية خلال القرن العشرين بشكل عام، وخلال العهد الجديد بشكل خاص؛ بحيث إنه من المعلوم أن دولَ إفريقيا جنوب الصحراء، تشكل العمقَ التاريخي والجغرافي للمغرب، وتربط حاضرَه بماضيه، وتجعله يستشرف مستقبلَه في ظل حزمة من الرؤى والتصورات التي وضعتها الدولة المغربية في الألفية الثالثة بهدف تعزيز هذه العلاقات وتمتينها، والرفعِ من مستواها، وتجاوزِ مختلف العراقيل التي تضعفها، وتحول دون وصولها إلى المستويات المنشودة؛ علاوة على أن هذا الموضوعَ يعتبر ذا راهنيه كبيرة؛ الشيء الذي حفزنا على الخوض في العلاقات المغربية الإفريقية من حيت أبعادِها الاستراتيجية؛ لأن المملكة المغربية خلال القرن الحالي غيرت طريقةَ تعاملها مع دول إفريقيا جنوب الصحراء، وآلَتْ على نفسها أن تتجاوز أساليبَ التواصلِ القديمة، والعملَ على تأصيل الروابط التي تجمعها مع عمقها التاريخي، اعتمادا على برامجَ واقعيةٍ، واستنادا إلى خِطَطٍ تنفيذيةٍ، وارتكازا إلى استراتيجياتٍ حقيقية محكومةٍ بأَجِنْداتٍ زمنية مضبوطة، ومرهونةٍ بمحطاتٍ معينة يجب تنفيذها واحدةً بعد الأخرى.
وما أضفى على هذه التصورات طابعَ الجدية والفاعلية، هو أنها نابعةٌ من رؤية ملكية عميقة لما يجب أن تكون عليه العلاقاتُ المغربية مع دول إفريقيا جنوب الصحراء. وهذه الرؤيةُ جسدها الملكُ محمدٌ السادس واقعيا من خلال تفعيل دبلوماسية ملكية حية ودينامية، شكلت استثناءً في النظام السياسي الحديث في القارة السمراء؛ لأن العاهلَ المغربي خص تلك الدول بزياراتٍ ملكية متعددةٍ، في إطار بناء شراكات حقيقية مع حكوماتها؛ إذ فاقت هذه الزيارات خمسين زيارةً رسمية؛ بل إن بعضَ تلك البلدان زارها الملك محمد السادس حفظه الله عدة مرات، وأشرف شخصيا على تدشين عدد من المشاريع الإنمائية الضخمة التي من شأنها أن تنعكس إيجابا على مستوى التنمية الاقتصادية والاجتماعية فيها.
وهذه الأساليب الجديدة في تعامل المغرب مع دول إفريقيا جنوب الصحراء استأثرت باهتمام الإعلام وطنيا وإقليميا وقاريا وعالميا، وبات الحديث عن هذه التصورات يدخل ضمن فضاءات البحث العلمي، سعيا إلى مقاربة هذه التوجهات مقاربات موضوعية، تراعي التراكمات الحاصلة في العلاقات المغربية الإفريقية بين الأمس واليوم، وتحاول أن تفهم ما يجري في السياسة الخارجية للمغرب، وما يرسمه من آفاق مستقبلية بينه وبين البلدان السالفة الذكر.
وقد اعتمدنا في بناء هذا العمل على جملة من المفاهيم جمعت بين حقول معرفية شتى؛ من أجل بناء معرفة موضوعية وواقعية مثل: مفهوم دول إفريقيا جنوب الصحراء، مفهوم التلاقح الحضاري، مفهوم العلاقات الروحية، مفهوم حركات التحرر الإفريقية، مفهوم منظمة الوحدة الإفريقية والاتحاد الإفريقي، مفهوم اللجوء والهجرة والتهجير، مفهوم المعابر والحدود، مفهوم الانفصال، مفهوم الإرهاب، مفهوم التطرف، مفهوم الأمن الروحي، مفهوم التعاون جنوب –جنوب، مفهوم الدبلوماسية، مفهوم حقوق الإنسان، وغيرِها من المفاهيم الكثير ة التي وظفناها في هذه الدراسة، والتي تشكل النسيجَ العام لمختلف مباحث وفصول هذا العمل.
وقد اعتمدنا في هذا العمل على مجموعة من الدراسات المؤطرة للموضوع والتي يمكن الاطلاع عليها كليةً في لائحة المصادر والمراجع التي ذيلنا بها هذا الكتاب. وهي أعمال غاية في الإفادة والأهمية؛ لأنها وَجَّهَتْنا نحو أهم القضايا التي يمكن معالجتُها والتعمقُ فيها، وأخذُها بعين الاعتبار.
وعموما، فإن هذه الدراساتِ النقديةَ والأعمالَ النظريةَ، سواءٌ أكانت عبارةً عن كتب جماعية، أم مؤلفاتٍ فرديةً، فإننا عززناها بحزمة من الموارد المعرفية الأخرى، تمثلت في مختلف المقالات العلمية التي قاربت جانبا من الجوانب التي لها علاقةٌ بهذا الكتاب، ناهيك عن توظيف حزمة من التقارير الصادرة عن عدد كبير من المؤسسات والهيئات الحكومية وغيرِ الحكومية، المحليةِ والقارية والدولية؛ مثلِ المجلس الوطني لحقوق الإنسان في المغرب، ومؤسسةِ الاتحاد الإفريقي، ومؤسسةِ الاتحاد الأوربي، وهيئةِ الأمم المتحدة، وغيرِها.
وهذه التقارير تتميز بدقتها، وبكونها تقدم تشخيصا معينا لقضية من القضايا، سواء تعلق الأمر بالهجرة واللجوء، أو بقضايا الفقر والهشاشة الاجتماعية، أو بمشكل التهريب والاتجار في المحظورات، أو غيرِها من المواضيع التي تشكل جانبا من جوانب العمل الاستراتيجي للمملكة المغربية في علاقاتها مع الدول الإفريقية.
وفي ختام هذا العمل، خرجنا بمجموعة من الخلاصات والاستنتاجات.