بقلم: خالد أنبيري
في لحظة تأمل صامتة، تقف مدينة تارودانت كما لو أنها تستجدي ماضيها المجيد لتغطي به خيبات الحاضر.. مدينة ضاربة في عمق التاريخ، شامخة بأسوارها، فخورة بتراثها، لكنها تعيش اليوم وضعاً لا يليق بمقامها، وكأن الزمن توقف بها عند مرحلة النسيان الإداري والإفلاس التنموي.
تمرّ في أزقتها، فتشعر أن المدينة أُهملت عن قصد، وأن يد التخطيط لم تمتد إليها إلا على استحياء، مشاريع متعثرة، مبادرات خجولة، وبنية تحتية تنوء تحت ثقل الإهمال، فيما المنتخبون، بكل ألوانهم، اكتفوا بالتقاط الصور داخل الاجتماعات الرسمية ورفع شعارات حفظها المواطن عن ظهر خيبة.
في مشهد يكاد يكون رمزياً، صار السور التاريخي، الذي كان يوماً عنواناً للقوة والتحصين، أشبه بستار مسرحي يُخفي خلفه عالماً موازياً من البؤس والإقصاء.. سورٌ تقف خلفه أزقة متآكلة، وشوارع مظلمة، وفضاءات صارت ملاذاً للمتشردين، ولمن لفظهم المجتمع في زواياه المنسية. سورٌ تُرَمَّمُ واجهته كل بضع سنوات فقط كي لا يقال إن المدينة سقطت، بينما الداخل ينهار بهدوء، كمنزل يتداعى في صمت.
إن التشققات التي تظهر في هذا السور ليست مجرد تصدعات في جدران طينية، بل شروخ في صورة المدينة وفي وعي ساكنتها بمكانتها، فكما بدأت الحجارة تتفكك من مواضعها، بدأت ثقة الناس تتآكل في كل من وعد فأخلف، وفي كل من لبس عباءة المسؤولية ليغيب خلف مكاتب مكيفة، فهذا السور الذي صمد لقرون أمام الغزاة، لم يصمد أمام إهمال أبنائه، وكأن المدينة اليوم تتهدم من الداخل، حجراً بعد حجر، ووهماً بعد آخر.
لكن خلف هذا السور، لا تختبئ فقط الجدران المتشققة والممرات المهملة، بل تتوارى كذلك فرصٌ ضائعة وآمال شباب حُرموا من أبسط مقومات العيش الكريم.. في مدينة تفيض بالإرث الثقافي وتملك من المقومات ما يؤهلها لتكون قطباً تنموياً بامتياز، لا تزال البطالة تنهش أحلام الجيل الصاعد، ويظل غياب مراكز التكوين والتشغيل عنواناً صارخاً لعجز السياسات العمومية عن مواكبة التحولات، فهنا، لا صوت يعلو فوق صوت العشوائية، ولا أفق يُرسم سوى بالانتظار الممل لمشاريع لا تأتي، ووعود تُطلق كل موسم انتخابي لتتبخّر عند أول اختبار جدّي.
قد يبدو المشهد ساخراً، لكنه في الحقيقة مأساة حضارية، مدينة كان من الممكن أن تكون قطباً ثقافياً وسياحياً وتنموياً، صارت اليوم مجرد ذكرى عابرة في خطب المناسبات، فلا مهرجاناتها استطاعت أن تعيد لها الحياة، ولا مساحاتها التاريخية وجدت من يعيد لها الروح، لقد فشلت المجالس المنتخبة المتعاقبة في خلق رؤية متكاملة تجعل من تارودانت حاضرة لا فقط بالاسم، بل بالفعل وبالعمل الجاد، بعيدا عن الوعود الكاذبة والخطب المملّة.
يُطرح السؤال اليوم أكثر من أي وقت مضى، هل يعقل أن تظل مدينة تاريخية كبرى كتارودانت دون مشاريع كبرى؟ دون رؤية ثقافية واضحة؟ دون إشعاع اقتصادي يليق بتاريخها وموقعها؟ أين المبادرات الهادفة لإحياء المدينة العتيقة؟ وأين الإرادة السياسية من أصحاب القرار مركزيا لتأهيل هذا التراث الحضاري وجعله مصدر دخل وفرص شغل؟ أم أن الجميع اكتفى بالفرجة وتبادل الاتهامات؟
تارودانت لا تحتاج إلى شعارات تتغنى بإعادتها لمجدها المفقود والضائع، بل تحتاج إلى من يعيد رسم ملامح مستقبلها، من يحوّلها من مدينة تتستر خلف سور إلى مدينة تفتخر بعمقها، وتبني عليه لا أن تتوارى وتخفي به واقعها البئيس.